بحث حول أسباب الإباحة
خــطـــة البـــحــث
مقدمــة
المبحث الأول : ماهية أسباب الإباحة
المطلب الأول : مفهوم الإباحة
المطلب الثاني : مصادر الإباحة
المطلب الثالث : أنواع أسباب الإباحة وآثارها
المبحث الثاني : أسباب الإباحة في القانون العقوبات الجزائري
المطلب الأول : ما أمر به القانون ( أداء الواجب )
المطلب الثاني : ما أذن به القانون ( استعمال الحق )
الخاتمة
مقدمة :
يعرف قانون العقوبات بمجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من عقوبات أو تدابير أمن إلى جانب القواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير .
فهو يشتمل على نوعين من الأحكام الموضوعية، الأولى أحكام عامة تبين القواعد والنظريات العامة التي تحكم التجريم والعقاب والتي تسري على كل الجرائم والعقوبات أو اغلبها والتدابير ويسمى القسم العام .
والثانية أحكام خاصة وتشمل بيان الجرائم بمفردها وأركان كل منها والظروف الخاصة بها والعقوبة المقررة لها ، ويسمى القسم الخاص .
ومن هنا فإن الجريمة تتوفر على ثلاثة أركان ومن هذه الأركان الركن الشرعي الذي يتوفر على عنصرين ، الأول خضوع لفعل لنص يجرمه وعدم خضوع الفعل لأي سبب من أسباب الإباحة .
ومن أسباب اختياري لهذا الموضوع هو ميولي لمعرفة أسباب الإباحة ، أما عن الصعوبات التي واجهتنا فلم تكن هناك أي صعوبات ولقد اعتمدت في هذا البحث على المنهج الوصفي والتحليلي لأنه الأنسب لهذا الموضوع ومن هنا سنحاول طرح الإشكالية التالية : ما المقصود بأسباب الإباحية وما طبيعتها؟
وسنحاول الإجابة على هذه الإشكالية في مبحثين و خمسة مطالب .
المبحث الأول : ماهية أسباب الإباحة
المطلب الأول : مفهوم الإباحة
تجرم الأفعال التي تحمل في طياتها معنى الاعتداء على حق يحميه القانون ، فإذا ما تجردت هذه الأفعال في معنى العدوان ابتداء كانت أفعالا مباحة . ويؤدي هذا الرأي إلى القول بأن أسباب التبرير لا علاقة لها بأركان الجريمة وخاصة الركن الشرعي ،لأنها لا ترد على أفعال مجرمة فهي ترد على أفعال لها صورة وقائع إجرامية ولكنها ليست جرائم ، وما النص القانوني عليها إلا دفعا للشبهة حولها .
وبغرض تنظيمها وبيان حدودها وتفصيل القيود التي ترد عليها .
على أن غالبية الفقه يرى بأن أسباب التبرير هي قيود ترد على نص التجريم فتعطل مفعوله ، ولهذا فهي تنعكس على الركن الشرعي للجريمة فتبطله ،إذ تخرج الواقائع من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة.
فإذا كان الأصل في الأفعال هو الإباحة فإن التجريم استثناء على هذا الأصل ، وتأتي أسباب التبرير كاستثناء على هذا الاستثناء لترد الفعل إلى أصله من المشروعية بعد أن كان مجرما. وعلة ذلك ، كما يرى أنصار هذا الرأي تكمن في انتفاء علة التجريم فقد لا يحمل الفعل معنى العدوان إذا ما ارتكب في ظروف معينة ــ كالجراحة للتطبيب ــ مما يبرر إباحته ، وقد يراعى القانون حقا أقوى من الحق المعتدى عليه ويراه أجدر بالرعاية فيجيز الفعل ويبطل نص التجريم كما في حالة القتل للدفاع الشرعي .
المطلب الثاني : مصـــادر الإباحة
لا تنحصر مصادر الإباحة في قانون العقوبات ، كما هو الشأن في نصوص التجريم أو تقرير العقوبات ، كما هو الشأن في نصوص التجريم أو تقرير أو بيان أنواع التدابير ، ففي الإباحة يجوز القياس وليس في ذلك تعطيل لمبدأ الشرعية حيث أننا لا نجرم فعلا مباحا . وزيادة على ذلك يجوز فيها الاستناد إلى قواعد العرف أو الشريعة الإسلامية أو إلى نصوص القوانين الوضعية الأخرى لتقرير وجود سبب إباحة. وهذا ما جعل أحد الفقهاء يقول بأن أسباب التبرير تكون قد وردت في قانون العقوبات على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر .
على أن أغلبية الفقهاء يرون أن أسباب الإباحة قد وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر لا المثال وإن جاز فيها الأخذ بالقياس أو العرف أو ما تقره القوانين الأخرى .
ونرى أن قانون العقوبات قد حصر مواضيع أسباب الإباحة في نصوصه ، وعطل النص التجريمي عن العمل في كل فعل يدخل ضمن هذه المواضيع في القوانين الأخرى واعتد حتى بالعرف ،وحتى لا يجري المشرع وراء نصوص متناثرة،هنا وهناك لا يمكن حصرها .آثر أن يحصرها بمواضيعها فحسب .فإذا ما وجدنا نصا في القانون يبيح فعلا معينا وجب علينا رده إلى أحد المواضيع التي حددها النص في قانون العقوبات .
وإذا أخذنا قانون العقوبات الجزائري على سبيل المثال نجد أنه حدد أسباب التبرير في كل فعل يأمر أو يأذن به القانون أو في حالة الدفاع الشرعي (المادتين 39.40) وعليه ، فلا يجوز إضافة أي سبب آخر لهذه الأسباب التي وردت على سبيل الحصر لا المثال . ففي البحث عن أي فعل يثور حوله التساؤل عما إذا كان من الأفعال التي تخضع لأسباب الإباحة أم لا،يجب أن نحدد ما إذا كان الفعل يدخل ضمن ما حدده القانون كأسباب للإباحة ، أي أن يكون الفعل في نطاق ما يأمر أو يأذن به القانون
أو حالة الدفاع الشرعي، إذ في نطاق هاتين الحالتين فقط تكون الأفعال مبررة ويخرج منها ما تعدى هاتين الحالتين ، وعليه فلا يجوز القول بأن حالة الضرورة مثلا هي سبب من أسباب الإباحة إذ لا تدخل ضمن نطاق هاتين الحالتين .
المطلب الثالث : أنواع أسباب الإباحة وآثارها
1- أنـــــواعهــا :
أ- بالنظر إلى تعدد المساهميــن : وتنقسم إلى أسباب مطلقة وأسباب نسبية :
•أسباب مطلقــــــة : يستفيد منها الجميع دون استثناء، أي كل من يكون في حالة دفاع شرعي حيث يستفيد منها المدافع والفاعل وشركاؤه .
•أسباب نسبية : لا يستفيد منها الكافة ، إنما يستفيد منها الأشخاص الذين يحددهم القانون .مثل عملية تأذيب الزوجة فيستفيد منها الزوج دون غيره .
ب- بالنظر إلى نوع الجريمة : وتنقسم إلى عامة وخـــاصة :
•أسباب عامة : تبيح كل الجرائم ومن ذلك الدفاع الشرعي ، فالقانون هنا يحدد وسيلة معينة للدفاع عن النفس ولكن إذا استلزم الدفاع القتل ، فإنه يبيح ذلك .
•أسباب خــاصة : لا تبيح كل الجرائم مثل عمليه تأديب الزوجة فهو مباح ولكن ضمن الشروط المقيدة بالغاية ، والخروج عن هذه الشروط يعتبر الفعل غير مشروع وكذلك ، الصحافة والمحامين تباح لهم إلا الجرائم القولية والخروج عن الجرائم التي حددها القانون فيعتبر الفعل غير مشروع أيضا .
2- آثـــر الإبــاحة :
يعد الفعل الذي يخضع لسبب من أسباب التبرير فعلا مشروعا .
ويترتب على ذلك اعتبار كل من ساهم فيه كفاعل أصلي أو شريك ،بريء باعتباره قد ساهم في عمل مشروع أو مبرر .
فأسباب الإباحة ظروف موضوعية تمحو عن الفعل صفته التجريمية وتنحصر في الظروف المادية للفعل لا الظروف الشخصية للفاعل .وينجر عن ذلك عدم الاعتداد بالجهل بالإباحة ، كما ينحصر تأثير الغلط في الركن المعنوي للجريمة لا الركن القانوني لها .
المبحث الثاني : أسباب الإباحة في قانون العقوبات الجزائري
نص قانون العقوبات الجزائري تحت عنوان الأفعال المبررة " على أسباب الإباحة في المادتين 39 و 40 وقد جاء النص على النحو التالي :
المادة 39 : لا جريمة :
1-إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون .
2-إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو عن مال مملوك للشخص أو للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الإعتداء.
المادة 40 :
يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع .
1-القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل .
2-الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أوالنهب بالقوة .
ويفهم من هذين النصين أن قانون العقوبات الجزائري قد حصر أسباب التبرير فيما يأمر أو يأذن به القانون وفي حالة الدفاع الشرعي .
إلا أننا نشير على أن هناك موانع تمنع الجاني من العقاب وهي موانع المسؤولية الجنائية ألا وهي الجنون وصغر السن والإكراه كما هي محددة في المواد 49،48،47 من قانون العقوبات ولا مجال للكلام عن المسؤولية الجنائية إلا بعد قيام الجريمة ، وهي أسباب تتعلق بذاتية الشخص وعندما تتحقق
يمكنها أن تمنع مسؤولية الفاعل العقابية ولكنها لا تنفي عن الفعل صفته الإجرامية .
المطلب الأول : ما يأمر به القانون
بالرجوع إلى النص القانوني نجد أن المادة 39 لم تحدد الأفعال التي تشملها الإباحة إذا ارتكبت باء على أمر القانون أو بإذنه .فقد جاء مدلول النص عاما وشاملا بحيث يشمل جميع الأفعال التي تعتبر جرائم لو لم يأمر أو يأذن بها القانون . فتنفيذ القانون وخاصة في تحقيق الجرائم ومتابعة منفذيها تقتضي تدخل السلطة العامة بالتفتيش والحجز والاستجواب والاعتقال والسجن بعد صدور الحكم بالإدانة وكلها أعمالا تعتبر اعتداء على الحريات العامة لو لم يأمر أو يأذن بها القانون .
1 – تنفيذ ما أمر به القانون : يكمن سر إباحة الأفعال التي يأمر بها القانون ،في النص القانوني ذاته فليس من المنطق أن يأمر القانون بفعل معين ثم يجرمه بعد ذلك . فإذا ما رأى المشرع ضرورة التدخل - رعاية لمصلحة اجتماعية ـ بتعطيل نص التجريم وتبرير الخروج عليه في حالة معينة .
فإن ذلك يعني إباحته ضمن الشروط التي حددها القانون ، فالشاهد المطلوب منه الإدلاء بشهادته بموجب المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار أو القذف أو السب بحق المتهم عند الإدلاء بشهادته ، وكذلك من علم بوجود خطط أو أفعال لإرتكاب جرائم الخيانة والتجسس أو الجرائم التي من طبيعتها الإضرار بالدفاع الوطني عليه أن يبلغ عنها السلطة العسكرية أو الإدارية أو القضائية فور علمه بها ، ولا يتضمن ذلك التبليغ جريمة إفشاء الأسرار .
ومن أمثله ما يأمر به القانون أيضا ،ما ورد في قانون الصحة العمومية من نصوص توجب على الطبيب التبليغ على حالة مرض معدي ، ولا يعد تبليغ هذا جريمة إفشاء سر المهنة المنصوص عليه في المادة 301 من قانون العقوبات .
تنفيذ الأمر الصادر من سلطة مختصة : ويدخل ضمن إباحة الأفعال بناء على أمر القانون تنفيذ الأمر الصادر عن سلطة مختصة ، وذلك أن القانون يوجب على الموظف المرؤوس إطاعة رئيسه طبقا للتدرج التسلسلي في الوظيف العمومي ، وعليه فإن إطاعة المرؤوس لرئيسه ليست إلا تطبيقا لما أمر به القانون.
ومثال ذلك أن يقوم الموظف المختص بتنفيذ حكم الإعدام بناء على أمر السلطة المختصة ، ففعله هذا لا يعد جريمة قتل ولا تنطبق عليه المواد 254 وما بعدها من قانون العقوبات كما أن تنفيذ أحد أعوان القوة العمومية لأوامر قاضي التحقيق باحضار المتهم جبرا عنه بطريقة القوة أو إلقاء القبض عليه لا يجعله مرتكبا لجرائم الاعتداء على الحريات الفردية طبقا للمادة 291 ق إ ج .
" يعاقب بالسجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشر سنوات كل من اختطف أو قبض أو جبس أو حجز أي شخص بدون أمر السلطات المختصة وخارج الحالات التي يجيز أو يأمر فيها القانون بالقبض على الأفراد " .
وقد يتطلب القانون أن تصدر أوامر السلطة بشكلية معينة فيجب مراعاتها ، ومثال ذلك وجوب أن يصدر أمرالإحضار عن قاضي التحقيق كتابة ( المادة 109 ق إ ج ) . ففي مثل هذه الحالة يجب على عون القوة العمومية أن يتلقى أمرا بالاحضار ، فليس له أن ينفذ بلا أمر الإحضار مدعيا أنه ينفذ أمر القانون مباشرة ، كما لا يجوز له إحضار المتهم بدون احضار كتابي مدعيا أنه تلقى الأمر شفاهة .فنص المادة 109 من قانون الإجراءات الجزائية واضح في ذلك . إذ توجب أن يذكر في كل أمر نوع التهمة ومواد القانون المطبقة مع إيضاح هوية المتهم وتاريخ الأمر وتوقيع القاضي الذي أصدره ومهره بخاتمه .
ومن أمثله ذلك أيضا ما نصت عليه المادة 14 من قانون إصلاح السجون (الصادر بالأمر رقم 72/2 في 19 فيفري سنة 1972 ) من أنه " لا يجوز لأي مستخدم في إدارة إعادة التربية والتأهخيل الاجتماعي للمساجين أن يحبس شخصا دون أن يكون مصحوبا بأوامر حبس قانونية أو حكم يتضمن عقوبة نهائية ومسجل مسبقا في سجل ( المؤسسة ) وذلك تجت طائلة المتابعة بتهمة الحجز التحكمي " .
وهذا يعني أن مراعاة الشكل المطلوب قانونا ، هو أمر لازم لاعتبار أن الفعل مباح،متى
صدر الأمر عن سلطة مخولة باصداره قانونا ، ونفذ من جانب الموظف المختص بتفيذه حسب القواعد القانونية أيضا .
المطلب الثاني : ما يأذن به القانون
ويعني ذلك أن القانون يجيز في حالات معينة ويسمح بممارسة عمل كان بغياب هذا السماح عملا مجرما .
ويمكن الفرق بين ما أمر به القانون وبين ما أذن به ، في أن الأول إجباري يجب القيام به بحيث يترتب على مخالفته المسؤولية الجنائية في حين أمن الثاني يسمح للمخاطب بالقاعدة أن يستعمل رأيه الشخصي في القيام بالعمل أو الامتناع عنه ،فإذا قام بالعمل فلا جريمة لأن القيام بالعمل يأذن به القانون . ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 61 من قانون الإجراءات الجزائية :" يحق لكل شخص في حالات الجناية أو الجنحة المتلبس بها والمعاقب عليها بعقوبة الحبس ، ضبط الفاعل واقتياده إلى أقرب مأمور للضبط القضائي " .
فقيلم الشخص سواء كان موظفا بهذا الفعل لا يعد جريمة إحتجاز تحكمي للأشخاص أو مصادرة حريتهم في التنقل المكفولة بالدستور (المادة 41 ) والمعاقب عليها بالمادة 91 من قانون العقوبات .
وتتنوع الأعمال التي يأذن بها القانون ويمكن أن نردها على النحو إجمالي إلى نوعين :
1- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطة تقديرية لمباشرة عمله .
2- الحالات التي أذن بها القانون لممارسة أحد الحقوق المقررة .
1- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطته التقديرية :
منح القانون للموظف العام سلطة تقديرية مباشرة بعض أعمال وظيفته ، وعليه فإذا قام الموظف بعمله ضمن هذه الرخصة المعطاة له من القانون فإن عمله لا يعد جريمة إستنادا إلى أن العمل مباح بإذن القانون. وأحكام ذلك كثيرة في قانون الإجراءات الجزائية ، وعلى سبيل المثال يجيز القانون لمأمور الضبط القضائي تفتيش المنازل (م44) والاطلاع على المستندات ( م 54) ومنع أي شخص من مبارحة مكان الجريمة ريثما ينتهي من اجراءات تحرياته ( م50 ) وله أن يحتجر شخصا أو أكثر ( م51 )...إلخ
كل ذلك ضمن شروط يحددها القانون ، واتباع الشروط التي يحددها القانون أمر ضروري لاعتبار أن العمل مباحا ،واهمالها أو تجاوزها يجعل العمل غير مشروع .
ففي تفتيش المنازل ـ على سبيل المثال ـ يلزم القانون مأمور الضبط القضائي أن يجري تفتيشه بوجود صاحب المنزل ، وبغيابه يستدعي من ينوب عنه وإذا تعذر ذلك وجب إجراء التفتيش بحضور شاهدين من غير الموظفين الخاضعين لسلطة مأمور الضبط القضائي .فإذا لم تراع هذه الشروط أعتبر القيام بالتفتيش باطلا (م48) لا يمكن تبريره واعتباره سببا للإباحة .
كما يجب أن تنفذ هذه الأعمال بحسن نية ، ويعني ذلك أن تتفق نقاصد مأمور الضبط القضائي مع الغاية التي يتغيها القانون . فالقانون خول مأمور الضبط القضائي منع أي شخص من مغادرة مكان الجريمة لمصلحة التحقيق وسعيا للوصول إلى الحقيقة ، فإذا استغل مأمور الضبط القضائي سلطته التقديرية لمنع الشخص من مغادرة المكان بغرض آخر ، كلانتقام منه مثلا فإن عمله هذا غير مشروع ولا يبرر إباحة الفعل .
2- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطته التقديرية :
ويدخل ضمن الأعمال التي يإذن بها القانون ممارسة الشخص لحق له مقرر في القانون على أن لا يقتصر معنى القانون هنا على قانون العقوبات ، إذ يقصد به كل قاعدة قانونية بمعنى عام ، فيدخل ضمنه العرف والشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الأخرى ويمكننا أن نجمل هذه الحقوق في حق التأديب وحق مباشرة الأعمال الطبية وممارسة بعض الأعلعاب الرياضية .
أ – حق التأديب :
تقرر الشريعة الإسلامية أن للزوج حق تأذيب زوجته، ضمن شروط التقيد بالغاية التي من أجلها منح هذا الحق وفي حدود الوسائل التي قررتها، فالغاية هي التهذيب ووسيلة ذلك هو أن يلجأ الزوج إلى الوعظ أولا ثم الهجر في المضجع وأخيرا الضرب .
فإذا لم يلتزم الزوج بالغاية فليس له أن يحتج بهذا الحق ، كمن يضرب زوجته للانتقام منها .
كما أنه عليه يلتزم بالوسائل التي حددها الشرع فيبدأ بالوعظ ثم الهجر، فإذا بدأ بالضرب فإن عمله غير مبرر ولا يمكنه الاحتجاج بحقه في التأذيب ، وحتى إذا إلتزم بالغاية واتبع الوسائل كما حددها المشرع فليس له التذرع بهذا الحق لضرب زوجته ضربا مبرحا أو شديدا ، فالضرب المباح هو الضرب الخفيف الذي لا يترك أثرا .
كما يحق للأب أن يؤدب إبنه ،وهو حق يتعلق بالولاية على النفس وشرط تبرير هذا الفعل أن يتقيد الأب بغاية تأديب إبنه .
ويساهم العرف أحيانا في تقرير هذا الحق بالنسبة لتأديب التلاميذ الصغار إذ يجوز للمعلم ضرب تلميذه ضربا خفيفا بهدف التأديب ، كما يجوز لملن الحرفة أن يستعمل الضرب الخفيف لتأديب من يتعلم على يديه الحرفة .
أ – حق مباشرة الأعمال الطبية :
يعترف القانون بمهنة الطب وينظمها ويأذن للطبيب بمعالجة المرضى لتخليصهم من الأمراض التي تحل بهم .
ومن الطبيعي أن يؤدي الاعتراف بالحق إلى الاعتراف بالوسائل التي تؤدي إليه فالاعتراف بالتطبيب يقتضى حتما الاعتراف بالوسائل التي تؤدي إلى العلاج ،وعلة ذلك أن العمل الطبي لا يحمل بذاته اعتداء على جسم المريض فهو على العكس يسعى إلى شفائه ليستعيد سيره الطبيعي أو تخليصه من أي آفة لحقت به .
وإباحة العمل الطبي تقتضي مراعاة شروط معينة :
1- الاختصاص في العمل :
تقتضي ممارسة العمل الطبي أن يكون المعالج طبيبا، أي مختصا . والطبيب هو من كان أحد خريجي كلية الطب ، حاصل على مؤهل دراسي يسمح له بموجب قوانين البلاد من ممارسة مهنة الطب . وعليه ، فلا تباح أفعال بعض الأشخاص الذين يتعاطون بعض الأعمال التي يدعون أنها تحقق الشفاء حتى ولو ثبت ذلك بالممارسة .
2- موافقة المريض على العلاج :
إن القانون لا يجبر الأشخاص ولا يجيز للأطباء إجبارهم على التداوي، احتراما لما لجسم الانسان من حصانة .
ونرى أن يتقيد هذا الحق بنوع المرض المطلوب علاجه ، فالمريض له الحق على جسمه وله تبعا لذلك أن يرفض العلاج . ولكن ما القول لو كان المريض مهديا ويخشى منه على الصحة العامة ؟ نرى أن يكون العلاج في مثل هذه الحالة إجباريا تحقيقا لمصلحة إجتماعية أجدر بالرعاية وهي مصلحة الناس في أن لا ينتقل لهم هذا المرض .
ويفارض أن يصدر رضاء المريض عمن يعتد برضائه قانونا ، فإذا لم تسمح حالة المريض بابداء رأيه لممثله القانوني باتخاذ القرار .
3- تحقيق الغايــة :
يقصد بالعلاج مداواة المريض ، وبهذه الغاية ترتبط الإباحة . فإذا قصد الطبيب من العلاج أمرا أو غاية أخرى ،كإجراء العلاج بقصد القيام بتجربة علمية مثلا ، فإن ذلك يبعد الفعل عن أسباب الإباحة أو التبرير ويعد عندها عملا غير مشروعا .
جـ – ممارسة الألعاب الرياضية :
تفترض بعض الألعاب الرياضية أن يقوم المنافس بالمساس بجسم منافسه عمدا ، كما في رياضة الملاكمة أو الركبي أو المصارعة أو الجيدو ... ، فهل يعد ذلك إعتداءً ؟
يأذن القانون ويعتبر عملا مباحا ممارسة اللاعب للعبة رياضة ضمن قواعد اللعبة ولو نتج عن ذلك ما يمكن إعتباره مساسا بجسم اللآخرين ، وعلة الإباحة تكمن في أن اللاعب يكون قد مارس حقا يقره القانون ( العرف الرياضي ) إذ تشجع الدولة الألعاب الرياضية وتشرف عليها .
ويشترط كي يعتبر العمل مباحا أن تكون اللعبة من الألعاب التي يقرها العرف الرياضي ، إذ ينظم قوانينها وقواعدها ويحدد تقاليدها وقد تمارس في كل البلاد أو في أي جهة من جهات الوطن فحسب ، كما يشترط أن يقع الفعل موضوع الإباحة أثناء ممارسة اللعبة الرياضية على المنافس الآخر الذي اشترك بالمنافسة باختياره دون أن يتجاوز الجاني قواعد وقوانين اللعبة .
الخاتمـــة :
من خلال ما تم عرضه بشأن أسباب الإباحة بطبيعتها تبين لنا أن النص في قانون العقوبات والقوانين المكملة له يحدد الأفعال المحظورة التي يعد اقترافها بشروط معينة جريمة من الجرائم وتتعد هذه النصوص بتعدد الأفعال التي يحضرها القانون ، وتسمى نصوص التجريم والفعل لا يمكن اعتباره جريمة إلا إذا انظبق عليه أحد هذه النصوص.ولكن هناك أفعال مجرمة ومع ذلك يبيحها القانون بهدف تحقيق المصلحة العامة ولكن ضمن شروط يحددها القانون .
ومن هنا فإن أسباب الإباحة هي ذات طبيعة موضوعية تمحو عن الفعل صفته التجريمية وتنحصر في الظروف المادية للفعل ،لا الظروف الشخصية للفاعل وينجر عن ذلك عدم الاعتداد بالعمل بالإباحة .
خــطـــة البـــحــث
مقدمــة
المبحث الأول : ماهية أسباب الإباحة
المطلب الأول : مفهوم الإباحة
المطلب الثاني : مصادر الإباحة
المطلب الثالث : أنواع أسباب الإباحة وآثارها
المبحث الثاني : أسباب الإباحة في القانون العقوبات الجزائري
المطلب الأول : ما أمر به القانون ( أداء الواجب )
المطلب الثاني : ما أذن به القانون ( استعمال الحق )
الخاتمة
مقدمة :
يعرف قانون العقوبات بمجموعة القواعد القانونية التي تبين الجرائم وما يقرر لها من عقوبات أو تدابير أمن إلى جانب القواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تحكم هذه الجرائم والعقوبات والتدابير .
فهو يشتمل على نوعين من الأحكام الموضوعية، الأولى أحكام عامة تبين القواعد والنظريات العامة التي تحكم التجريم والعقاب والتي تسري على كل الجرائم والعقوبات أو اغلبها والتدابير ويسمى القسم العام .
والثانية أحكام خاصة وتشمل بيان الجرائم بمفردها وأركان كل منها والظروف الخاصة بها والعقوبة المقررة لها ، ويسمى القسم الخاص .
ومن هنا فإن الجريمة تتوفر على ثلاثة أركان ومن هذه الأركان الركن الشرعي الذي يتوفر على عنصرين ، الأول خضوع لفعل لنص يجرمه وعدم خضوع الفعل لأي سبب من أسباب الإباحة .
ومن أسباب اختياري لهذا الموضوع هو ميولي لمعرفة أسباب الإباحة ، أما عن الصعوبات التي واجهتنا فلم تكن هناك أي صعوبات ولقد اعتمدت في هذا البحث على المنهج الوصفي والتحليلي لأنه الأنسب لهذا الموضوع ومن هنا سنحاول طرح الإشكالية التالية : ما المقصود بأسباب الإباحية وما طبيعتها؟
وسنحاول الإجابة على هذه الإشكالية في مبحثين و خمسة مطالب .
المبحث الأول : ماهية أسباب الإباحة
المطلب الأول : مفهوم الإباحة
تجرم الأفعال التي تحمل في طياتها معنى الاعتداء على حق يحميه القانون ، فإذا ما تجردت هذه الأفعال في معنى العدوان ابتداء كانت أفعالا مباحة . ويؤدي هذا الرأي إلى القول بأن أسباب التبرير لا علاقة لها بأركان الجريمة وخاصة الركن الشرعي ،لأنها لا ترد على أفعال مجرمة فهي ترد على أفعال لها صورة وقائع إجرامية ولكنها ليست جرائم ، وما النص القانوني عليها إلا دفعا للشبهة حولها .
وبغرض تنظيمها وبيان حدودها وتفصيل القيود التي ترد عليها .
على أن غالبية الفقه يرى بأن أسباب التبرير هي قيود ترد على نص التجريم فتعطل مفعوله ، ولهذا فهي تنعكس على الركن الشرعي للجريمة فتبطله ،إذ تخرج الواقائع من دائرة التجريم إلى دائرة الإباحة.
فإذا كان الأصل في الأفعال هو الإباحة فإن التجريم استثناء على هذا الأصل ، وتأتي أسباب التبرير كاستثناء على هذا الاستثناء لترد الفعل إلى أصله من المشروعية بعد أن كان مجرما. وعلة ذلك ، كما يرى أنصار هذا الرأي تكمن في انتفاء علة التجريم فقد لا يحمل الفعل معنى العدوان إذا ما ارتكب في ظروف معينة ــ كالجراحة للتطبيب ــ مما يبرر إباحته ، وقد يراعى القانون حقا أقوى من الحق المعتدى عليه ويراه أجدر بالرعاية فيجيز الفعل ويبطل نص التجريم كما في حالة القتل للدفاع الشرعي .
المطلب الثاني : مصـــادر الإباحة
لا تنحصر مصادر الإباحة في قانون العقوبات ، كما هو الشأن في نصوص التجريم أو تقرير العقوبات ، كما هو الشأن في نصوص التجريم أو تقرير أو بيان أنواع التدابير ، ففي الإباحة يجوز القياس وليس في ذلك تعطيل لمبدأ الشرعية حيث أننا لا نجرم فعلا مباحا . وزيادة على ذلك يجوز فيها الاستناد إلى قواعد العرف أو الشريعة الإسلامية أو إلى نصوص القوانين الوضعية الأخرى لتقرير وجود سبب إباحة. وهذا ما جعل أحد الفقهاء يقول بأن أسباب التبرير تكون قد وردت في قانون العقوبات على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر .
على أن أغلبية الفقهاء يرون أن أسباب الإباحة قد وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر لا المثال وإن جاز فيها الأخذ بالقياس أو العرف أو ما تقره القوانين الأخرى .
ونرى أن قانون العقوبات قد حصر مواضيع أسباب الإباحة في نصوصه ، وعطل النص التجريمي عن العمل في كل فعل يدخل ضمن هذه المواضيع في القوانين الأخرى واعتد حتى بالعرف ،وحتى لا يجري المشرع وراء نصوص متناثرة،هنا وهناك لا يمكن حصرها .آثر أن يحصرها بمواضيعها فحسب .فإذا ما وجدنا نصا في القانون يبيح فعلا معينا وجب علينا رده إلى أحد المواضيع التي حددها النص في قانون العقوبات .
وإذا أخذنا قانون العقوبات الجزائري على سبيل المثال نجد أنه حدد أسباب التبرير في كل فعل يأمر أو يأذن به القانون أو في حالة الدفاع الشرعي (المادتين 39.40) وعليه ، فلا يجوز إضافة أي سبب آخر لهذه الأسباب التي وردت على سبيل الحصر لا المثال . ففي البحث عن أي فعل يثور حوله التساؤل عما إذا كان من الأفعال التي تخضع لأسباب الإباحة أم لا،يجب أن نحدد ما إذا كان الفعل يدخل ضمن ما حدده القانون كأسباب للإباحة ، أي أن يكون الفعل في نطاق ما يأمر أو يأذن به القانون
أو حالة الدفاع الشرعي، إذ في نطاق هاتين الحالتين فقط تكون الأفعال مبررة ويخرج منها ما تعدى هاتين الحالتين ، وعليه فلا يجوز القول بأن حالة الضرورة مثلا هي سبب من أسباب الإباحة إذ لا تدخل ضمن نطاق هاتين الحالتين .
المطلب الثالث : أنواع أسباب الإباحة وآثارها
1- أنـــــواعهــا :
أ- بالنظر إلى تعدد المساهميــن : وتنقسم إلى أسباب مطلقة وأسباب نسبية :
•أسباب مطلقــــــة : يستفيد منها الجميع دون استثناء، أي كل من يكون في حالة دفاع شرعي حيث يستفيد منها المدافع والفاعل وشركاؤه .
•أسباب نسبية : لا يستفيد منها الكافة ، إنما يستفيد منها الأشخاص الذين يحددهم القانون .مثل عملية تأذيب الزوجة فيستفيد منها الزوج دون غيره .
ب- بالنظر إلى نوع الجريمة : وتنقسم إلى عامة وخـــاصة :
•أسباب عامة : تبيح كل الجرائم ومن ذلك الدفاع الشرعي ، فالقانون هنا يحدد وسيلة معينة للدفاع عن النفس ولكن إذا استلزم الدفاع القتل ، فإنه يبيح ذلك .
•أسباب خــاصة : لا تبيح كل الجرائم مثل عمليه تأديب الزوجة فهو مباح ولكن ضمن الشروط المقيدة بالغاية ، والخروج عن هذه الشروط يعتبر الفعل غير مشروع وكذلك ، الصحافة والمحامين تباح لهم إلا الجرائم القولية والخروج عن الجرائم التي حددها القانون فيعتبر الفعل غير مشروع أيضا .
2- آثـــر الإبــاحة :
يعد الفعل الذي يخضع لسبب من أسباب التبرير فعلا مشروعا .
ويترتب على ذلك اعتبار كل من ساهم فيه كفاعل أصلي أو شريك ،بريء باعتباره قد ساهم في عمل مشروع أو مبرر .
فأسباب الإباحة ظروف موضوعية تمحو عن الفعل صفته التجريمية وتنحصر في الظروف المادية للفعل لا الظروف الشخصية للفاعل .وينجر عن ذلك عدم الاعتداد بالجهل بالإباحة ، كما ينحصر تأثير الغلط في الركن المعنوي للجريمة لا الركن القانوني لها .
المبحث الثاني : أسباب الإباحة في قانون العقوبات الجزائري
نص قانون العقوبات الجزائري تحت عنوان الأفعال المبررة " على أسباب الإباحة في المادتين 39 و 40 وقد جاء النص على النحو التالي :
المادة 39 : لا جريمة :
1-إذا كان الفعل قد أمر أو أذن به القانون .
2-إذا كان الفعل قد دفعت إليه الضرورة الحالة للدفاع المشروع عن النفس أو عن الغير أو عن مال مملوك للشخص أو للغير بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع جسامة الإعتداء.
المادة 40 :
يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع .
1-القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل .
2-الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أوالنهب بالقوة .
ويفهم من هذين النصين أن قانون العقوبات الجزائري قد حصر أسباب التبرير فيما يأمر أو يأذن به القانون وفي حالة الدفاع الشرعي .
إلا أننا نشير على أن هناك موانع تمنع الجاني من العقاب وهي موانع المسؤولية الجنائية ألا وهي الجنون وصغر السن والإكراه كما هي محددة في المواد 49،48،47 من قانون العقوبات ولا مجال للكلام عن المسؤولية الجنائية إلا بعد قيام الجريمة ، وهي أسباب تتعلق بذاتية الشخص وعندما تتحقق
يمكنها أن تمنع مسؤولية الفاعل العقابية ولكنها لا تنفي عن الفعل صفته الإجرامية .
المطلب الأول : ما يأمر به القانون
بالرجوع إلى النص القانوني نجد أن المادة 39 لم تحدد الأفعال التي تشملها الإباحة إذا ارتكبت باء على أمر القانون أو بإذنه .فقد جاء مدلول النص عاما وشاملا بحيث يشمل جميع الأفعال التي تعتبر جرائم لو لم يأمر أو يأذن بها القانون . فتنفيذ القانون وخاصة في تحقيق الجرائم ومتابعة منفذيها تقتضي تدخل السلطة العامة بالتفتيش والحجز والاستجواب والاعتقال والسجن بعد صدور الحكم بالإدانة وكلها أعمالا تعتبر اعتداء على الحريات العامة لو لم يأمر أو يأذن بها القانون .
1 – تنفيذ ما أمر به القانون : يكمن سر إباحة الأفعال التي يأمر بها القانون ،في النص القانوني ذاته فليس من المنطق أن يأمر القانون بفعل معين ثم يجرمه بعد ذلك . فإذا ما رأى المشرع ضرورة التدخل - رعاية لمصلحة اجتماعية ـ بتعطيل نص التجريم وتبرير الخروج عليه في حالة معينة .
فإن ذلك يعني إباحته ضمن الشروط التي حددها القانون ، فالشاهد المطلوب منه الإدلاء بشهادته بموجب المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار أو القذف أو السب بحق المتهم عند الإدلاء بشهادته ، وكذلك من علم بوجود خطط أو أفعال لإرتكاب جرائم الخيانة والتجسس أو الجرائم التي من طبيعتها الإضرار بالدفاع الوطني عليه أن يبلغ عنها السلطة العسكرية أو الإدارية أو القضائية فور علمه بها ، ولا يتضمن ذلك التبليغ جريمة إفشاء الأسرار .
ومن أمثله ما يأمر به القانون أيضا ،ما ورد في قانون الصحة العمومية من نصوص توجب على الطبيب التبليغ على حالة مرض معدي ، ولا يعد تبليغ هذا جريمة إفشاء سر المهنة المنصوص عليه في المادة 301 من قانون العقوبات .
تنفيذ الأمر الصادر من سلطة مختصة : ويدخل ضمن إباحة الأفعال بناء على أمر القانون تنفيذ الأمر الصادر عن سلطة مختصة ، وذلك أن القانون يوجب على الموظف المرؤوس إطاعة رئيسه طبقا للتدرج التسلسلي في الوظيف العمومي ، وعليه فإن إطاعة المرؤوس لرئيسه ليست إلا تطبيقا لما أمر به القانون.
ومثال ذلك أن يقوم الموظف المختص بتنفيذ حكم الإعدام بناء على أمر السلطة المختصة ، ففعله هذا لا يعد جريمة قتل ولا تنطبق عليه المواد 254 وما بعدها من قانون العقوبات كما أن تنفيذ أحد أعوان القوة العمومية لأوامر قاضي التحقيق باحضار المتهم جبرا عنه بطريقة القوة أو إلقاء القبض عليه لا يجعله مرتكبا لجرائم الاعتداء على الحريات الفردية طبقا للمادة 291 ق إ ج .
" يعاقب بالسجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشر سنوات كل من اختطف أو قبض أو جبس أو حجز أي شخص بدون أمر السلطات المختصة وخارج الحالات التي يجيز أو يأمر فيها القانون بالقبض على الأفراد " .
وقد يتطلب القانون أن تصدر أوامر السلطة بشكلية معينة فيجب مراعاتها ، ومثال ذلك وجوب أن يصدر أمرالإحضار عن قاضي التحقيق كتابة ( المادة 109 ق إ ج ) . ففي مثل هذه الحالة يجب على عون القوة العمومية أن يتلقى أمرا بالاحضار ، فليس له أن ينفذ بلا أمر الإحضار مدعيا أنه ينفذ أمر القانون مباشرة ، كما لا يجوز له إحضار المتهم بدون احضار كتابي مدعيا أنه تلقى الأمر شفاهة .فنص المادة 109 من قانون الإجراءات الجزائية واضح في ذلك . إذ توجب أن يذكر في كل أمر نوع التهمة ومواد القانون المطبقة مع إيضاح هوية المتهم وتاريخ الأمر وتوقيع القاضي الذي أصدره ومهره بخاتمه .
ومن أمثله ذلك أيضا ما نصت عليه المادة 14 من قانون إصلاح السجون (الصادر بالأمر رقم 72/2 في 19 فيفري سنة 1972 ) من أنه " لا يجوز لأي مستخدم في إدارة إعادة التربية والتأهخيل الاجتماعي للمساجين أن يحبس شخصا دون أن يكون مصحوبا بأوامر حبس قانونية أو حكم يتضمن عقوبة نهائية ومسجل مسبقا في سجل ( المؤسسة ) وذلك تجت طائلة المتابعة بتهمة الحجز التحكمي " .
وهذا يعني أن مراعاة الشكل المطلوب قانونا ، هو أمر لازم لاعتبار أن الفعل مباح،متى
صدر الأمر عن سلطة مخولة باصداره قانونا ، ونفذ من جانب الموظف المختص بتفيذه حسب القواعد القانونية أيضا .
المطلب الثاني : ما يأذن به القانون
ويعني ذلك أن القانون يجيز في حالات معينة ويسمح بممارسة عمل كان بغياب هذا السماح عملا مجرما .
ويمكن الفرق بين ما أمر به القانون وبين ما أذن به ، في أن الأول إجباري يجب القيام به بحيث يترتب على مخالفته المسؤولية الجنائية في حين أمن الثاني يسمح للمخاطب بالقاعدة أن يستعمل رأيه الشخصي في القيام بالعمل أو الامتناع عنه ،فإذا قام بالعمل فلا جريمة لأن القيام بالعمل يأذن به القانون . ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 61 من قانون الإجراءات الجزائية :" يحق لكل شخص في حالات الجناية أو الجنحة المتلبس بها والمعاقب عليها بعقوبة الحبس ، ضبط الفاعل واقتياده إلى أقرب مأمور للضبط القضائي " .
فقيلم الشخص سواء كان موظفا بهذا الفعل لا يعد جريمة إحتجاز تحكمي للأشخاص أو مصادرة حريتهم في التنقل المكفولة بالدستور (المادة 41 ) والمعاقب عليها بالمادة 91 من قانون العقوبات .
وتتنوع الأعمال التي يأذن بها القانون ويمكن أن نردها على النحو إجمالي إلى نوعين :
1- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطة تقديرية لمباشرة عمله .
2- الحالات التي أذن بها القانون لممارسة أحد الحقوق المقررة .
1- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطته التقديرية :
منح القانون للموظف العام سلطة تقديرية مباشرة بعض أعمال وظيفته ، وعليه فإذا قام الموظف بعمله ضمن هذه الرخصة المعطاة له من القانون فإن عمله لا يعد جريمة إستنادا إلى أن العمل مباح بإذن القانون. وأحكام ذلك كثيرة في قانون الإجراءات الجزائية ، وعلى سبيل المثال يجيز القانون لمأمور الضبط القضائي تفتيش المنازل (م44) والاطلاع على المستندات ( م 54) ومنع أي شخص من مبارحة مكان الجريمة ريثما ينتهي من اجراءات تحرياته ( م50 ) وله أن يحتجر شخصا أو أكثر ( م51 )...إلخ
كل ذلك ضمن شروط يحددها القانون ، واتباع الشروط التي يحددها القانون أمر ضروري لاعتبار أن العمل مباحا ،واهمالها أو تجاوزها يجعل العمل غير مشروع .
ففي تفتيش المنازل ـ على سبيل المثال ـ يلزم القانون مأمور الضبط القضائي أن يجري تفتيشه بوجود صاحب المنزل ، وبغيابه يستدعي من ينوب عنه وإذا تعذر ذلك وجب إجراء التفتيش بحضور شاهدين من غير الموظفين الخاضعين لسلطة مأمور الضبط القضائي .فإذا لم تراع هذه الشروط أعتبر القيام بالتفتيش باطلا (م48) لا يمكن تبريره واعتباره سببا للإباحة .
كما يجب أن تنفذ هذه الأعمال بحسن نية ، ويعني ذلك أن تتفق نقاصد مأمور الضبط القضائي مع الغاية التي يتغيها القانون . فالقانون خول مأمور الضبط القضائي منع أي شخص من مغادرة مكان الجريمة لمصلحة التحقيق وسعيا للوصول إلى الحقيقة ، فإذا استغل مأمور الضبط القضائي سلطته التقديرية لمنع الشخص من مغادرة المكان بغرض آخر ، كلانتقام منه مثلا فإن عمله هذا غير مشروع ولا يبرر إباحة الفعل .
2- الحالات التي يأذن بها القانون للموظف العام باستعمال سلطته التقديرية :
ويدخل ضمن الأعمال التي يإذن بها القانون ممارسة الشخص لحق له مقرر في القانون على أن لا يقتصر معنى القانون هنا على قانون العقوبات ، إذ يقصد به كل قاعدة قانونية بمعنى عام ، فيدخل ضمنه العرف والشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الأخرى ويمكننا أن نجمل هذه الحقوق في حق التأديب وحق مباشرة الأعمال الطبية وممارسة بعض الأعلعاب الرياضية .
أ – حق التأديب :
تقرر الشريعة الإسلامية أن للزوج حق تأذيب زوجته، ضمن شروط التقيد بالغاية التي من أجلها منح هذا الحق وفي حدود الوسائل التي قررتها، فالغاية هي التهذيب ووسيلة ذلك هو أن يلجأ الزوج إلى الوعظ أولا ثم الهجر في المضجع وأخيرا الضرب .
فإذا لم يلتزم الزوج بالغاية فليس له أن يحتج بهذا الحق ، كمن يضرب زوجته للانتقام منها .
كما أنه عليه يلتزم بالوسائل التي حددها الشرع فيبدأ بالوعظ ثم الهجر، فإذا بدأ بالضرب فإن عمله غير مبرر ولا يمكنه الاحتجاج بحقه في التأذيب ، وحتى إذا إلتزم بالغاية واتبع الوسائل كما حددها المشرع فليس له التذرع بهذا الحق لضرب زوجته ضربا مبرحا أو شديدا ، فالضرب المباح هو الضرب الخفيف الذي لا يترك أثرا .
كما يحق للأب أن يؤدب إبنه ،وهو حق يتعلق بالولاية على النفس وشرط تبرير هذا الفعل أن يتقيد الأب بغاية تأديب إبنه .
ويساهم العرف أحيانا في تقرير هذا الحق بالنسبة لتأديب التلاميذ الصغار إذ يجوز للمعلم ضرب تلميذه ضربا خفيفا بهدف التأديب ، كما يجوز لملن الحرفة أن يستعمل الضرب الخفيف لتأديب من يتعلم على يديه الحرفة .
أ – حق مباشرة الأعمال الطبية :
يعترف القانون بمهنة الطب وينظمها ويأذن للطبيب بمعالجة المرضى لتخليصهم من الأمراض التي تحل بهم .
ومن الطبيعي أن يؤدي الاعتراف بالحق إلى الاعتراف بالوسائل التي تؤدي إليه فالاعتراف بالتطبيب يقتضى حتما الاعتراف بالوسائل التي تؤدي إلى العلاج ،وعلة ذلك أن العمل الطبي لا يحمل بذاته اعتداء على جسم المريض فهو على العكس يسعى إلى شفائه ليستعيد سيره الطبيعي أو تخليصه من أي آفة لحقت به .
وإباحة العمل الطبي تقتضي مراعاة شروط معينة :
1- الاختصاص في العمل :
تقتضي ممارسة العمل الطبي أن يكون المعالج طبيبا، أي مختصا . والطبيب هو من كان أحد خريجي كلية الطب ، حاصل على مؤهل دراسي يسمح له بموجب قوانين البلاد من ممارسة مهنة الطب . وعليه ، فلا تباح أفعال بعض الأشخاص الذين يتعاطون بعض الأعمال التي يدعون أنها تحقق الشفاء حتى ولو ثبت ذلك بالممارسة .
2- موافقة المريض على العلاج :
إن القانون لا يجبر الأشخاص ولا يجيز للأطباء إجبارهم على التداوي، احتراما لما لجسم الانسان من حصانة .
ونرى أن يتقيد هذا الحق بنوع المرض المطلوب علاجه ، فالمريض له الحق على جسمه وله تبعا لذلك أن يرفض العلاج . ولكن ما القول لو كان المريض مهديا ويخشى منه على الصحة العامة ؟ نرى أن يكون العلاج في مثل هذه الحالة إجباريا تحقيقا لمصلحة إجتماعية أجدر بالرعاية وهي مصلحة الناس في أن لا ينتقل لهم هذا المرض .
ويفارض أن يصدر رضاء المريض عمن يعتد برضائه قانونا ، فإذا لم تسمح حالة المريض بابداء رأيه لممثله القانوني باتخاذ القرار .
3- تحقيق الغايــة :
يقصد بالعلاج مداواة المريض ، وبهذه الغاية ترتبط الإباحة . فإذا قصد الطبيب من العلاج أمرا أو غاية أخرى ،كإجراء العلاج بقصد القيام بتجربة علمية مثلا ، فإن ذلك يبعد الفعل عن أسباب الإباحة أو التبرير ويعد عندها عملا غير مشروعا .
جـ – ممارسة الألعاب الرياضية :
تفترض بعض الألعاب الرياضية أن يقوم المنافس بالمساس بجسم منافسه عمدا ، كما في رياضة الملاكمة أو الركبي أو المصارعة أو الجيدو ... ، فهل يعد ذلك إعتداءً ؟
يأذن القانون ويعتبر عملا مباحا ممارسة اللاعب للعبة رياضة ضمن قواعد اللعبة ولو نتج عن ذلك ما يمكن إعتباره مساسا بجسم اللآخرين ، وعلة الإباحة تكمن في أن اللاعب يكون قد مارس حقا يقره القانون ( العرف الرياضي ) إذ تشجع الدولة الألعاب الرياضية وتشرف عليها .
ويشترط كي يعتبر العمل مباحا أن تكون اللعبة من الألعاب التي يقرها العرف الرياضي ، إذ ينظم قوانينها وقواعدها ويحدد تقاليدها وقد تمارس في كل البلاد أو في أي جهة من جهات الوطن فحسب ، كما يشترط أن يقع الفعل موضوع الإباحة أثناء ممارسة اللعبة الرياضية على المنافس الآخر الذي اشترك بالمنافسة باختياره دون أن يتجاوز الجاني قواعد وقوانين اللعبة .
الخاتمـــة :
من خلال ما تم عرضه بشأن أسباب الإباحة بطبيعتها تبين لنا أن النص في قانون العقوبات والقوانين المكملة له يحدد الأفعال المحظورة التي يعد اقترافها بشروط معينة جريمة من الجرائم وتتعد هذه النصوص بتعدد الأفعال التي يحضرها القانون ، وتسمى نصوص التجريم والفعل لا يمكن اعتباره جريمة إلا إذا انظبق عليه أحد هذه النصوص.ولكن هناك أفعال مجرمة ومع ذلك يبيحها القانون بهدف تحقيق المصلحة العامة ولكن ضمن شروط يحددها القانون .
ومن هنا فإن أسباب الإباحة هي ذات طبيعة موضوعية تمحو عن الفعل صفته التجريمية وتنحصر في الظروف المادية للفعل ،لا الظروف الشخصية للفاعل وينجر عن ذلك عدم الاعتداد بالعمل بالإباحة .
تعليقات
إرسال تعليق